لدى تناول موضوع أوروبا وفهمها لذاتها وبخاصةٍ لدى تناول قيمها، يبقى الحديث عن أوروبا "المسيحية" شائعًا وبشكل واسعٍ، وكما يبدو على نحوٍ متزايدٍ، أو تتم الإشارة على الأقل إلى جذورها المسيحية ويجري الإصرار على الطابع المسيحي الناتج عن ذلك. بيد أنَّ الاستقامة السياسية تقتضي حظر استخدام كلمة "مسيحي" في هذا السياق على نحو حصري، لذا تسارع أصوات حسنة النية جدًا إلى الحديث بدلاً عن ذلك عن تقاليد مسيحيةٍ-يهوديةٍ أو عن التراث اليهودي-المسيحي في أوروبا، ولكن هذا لا يبدل في خطأ الفهم كثيرا.
إنما على العكس من ذلك تمامًا، حيث إنَّ نظرةً فاحصةً ماحصةً إلى الحديث عن التقاليد المسيحية-اليهودية أو عن التراث اليهودي-المسيحي في أوروبا تبيِّن بسرعة كبيرة جدًا أنَّ في الحديث مناورةً مكشوفة، فأولئك الذين يطلقون أعلى الأصوات التي تنادي بالتقاليد المسيحية-اليهودية في أوروبا، يقومون بذلك عادةً لتحقيق هدفٍ واحدٍ هو استبعاد الإسلام والتأكيد على عدم انتمائه إلى أوروبا عبر تأصيل الأمر بالتعريف.
هذا وقد كان مسار انتشار المسيحية في أوروبا تاريخيًا عملية طويلة وشاقة اتسمت بتعرجات و"نكسات" متكررة رافقتها على مدى أكثر من ألف عام. ولم يكتمل تنصير أوروبا في الواقع قط أو لم يكن قد اكتمل من قبل، ففي الوقت الذي جرى فيه طرد المسلمين بصورةٍ نهائيةٍ من شبه الجزيرة الأَيْبِيرِيّة وتمَّ دفع "آخر الكفار في أوروبا" من الليتوانيين في الشرق إلى اعتناق المسيحية (القرن الرابع عشر والخامس عشر)، كان الإسلام قد طفق منذ فترة طويلة في الانتشار مجددًا من الشرق ومن الجنوب الشرقي في منطقة البلقان، وكان له أن يبقى حاضرًا هناك بصورةٍ دائمة، ولم يختلف الأمر في أواسط وشرق أوروبا (ليتوانيا، بولندا، روسيا البيضاء) عن منطقة البلقان. حتى وإنْ كانت أعدادٌ كبيرة ٌمن المسلمين تُشكل جزءا من سكان أوروبا وبشكل لا يقبل الجدل ولا جدال فيه، وذلك في الماضي كما في يومنا هذا، إلا أنَّ الإسلام لا ينتمي وفقًا لوجهة النظر آنفة الذكر إلى أوروبا إنما يشكل عمليًا نقيضًا لها.
معاداة اليهود والمسلمين
["تقاليد أوروبا يهودية – مسيحية"؟ إنَّ نظرةً إلى كتب التاريخ تدحض هذه الفرضية وتُبيِّن أنَّ ذلك مجرد افتراض خيالي. رغم ذلك تستمر الفكرة المهيمنة القائلة بتآمر اليهود والمسلمين على المسيحيين والمسيحية.]
تبيِّن نظرة إلى كتب التاريخ أنَّ مقولة أوروبا اليهودية-المسيحية من الناحية التاريخية ليست أكثر من فرضية خيالية. ويصعب الحديث عن تقاليد يهودية-مسيحية، فمنذ القرن السابع والمجامع الكنسية تعلن باستمرار عن أنَّ اليهود غير مرغوبٍ بهم في "أوروبا المسيحية" وبالتالي اعتبرتهم أشخاصًا مرفوضين وبالتالي طردتهم منذ العصور الوسطى وبخاصةٍ من الدول الأوروبية الغربية.
وقد عرَّفت أوروبا المسيحية نفسها منذ البداية على أنها ضد اليهود وتابعت بذلك استراتيجية العزل والإقصاء تجاه اليهودية التي ارتسمت من الجانب اللاهوتي في العهد الجديد وفي النصوص المسيحية الأولى من خلال مُدوَّنة ثيودوسيانوس Codex Theodosianus وهي مجموعة قانونية (من عام 438) وكذلك من خلال المجموعة التي تعرف بـ"مُدوَّنة يوستنيانوس" Codex Justinianus (من عام 529) التي أدرجت بعد ذلك ضمن القوانين السارية المفعول، التي تـُشكّل الأساس القانوني لما يتعلق باليهود في تاريخ القانون الأوروبي، الذي تبلور بدوره وبرز إلى حيز الوجود بالشكل الذي عانى منه اليهود في أوروبا.
وقد وثّق هينتس شرِكنبرغ Heinz Schreckenberg بالنصوص والصور الأسس اللاهوتية-الفلسفية وكذلك تصاميمها الفنية بالتفصيل في عملٍ شمل أربعة مجلداتٍ حول النصوص المسيحية المعادية لليهود التي سببت عداءً متواصلاً لهم على مدى فترات طويلة من التاريخ الأوروبي. إنَّ الملاحقات التي لا حصر لها وعمليات طرد وترحيل اليهود من البلاد الأوروبية المسيحية منذ العصور الوسطى وحتى استبعادَهم من المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، تثبت في النهاية مدى قلة توافق فكرة أوروبا المسيحية مع وجود اليهود في أوروبا. وبالتأكيد لا يدحض ذلك بعض الحالات الفردية من اليهود الذين برزوا في مجال الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع.
نظرية المؤامرة
[أسطورة "أوروبا المسيحية": كان مسار انتشار المسيحية في أوروبا من الناحية التاريخية عملية طويلة وشاقة استمرت أكثر من ألف عام اتسمت بتعرجات و"نكسات" متكررة. الصورة ليان تسيشكي/ ويكيبيديا)]
على وقع التقدم السريع للمسلمين في بلدان شمال إفريقيا التي كانت مسيحية في البداية والتي سرعان ما تحولت إلى الإسلام، اتهم مجمع توليدو الكنسي السابع عشر (في عام 694) اليهود وبالعمالة والتآمر "مع يهود من بلدان أجنبية ومع أمم أخرى (أي المسلمين)" ضد المسيحية. وفي هذا السياق يمكن أنْ نقرأ أحيانًا حتى يومنا أنَّ طارق بن زياد قائد الجيش العربي الذي بدأ في تموز/يوليو 711 غزو اسبانيا واستطاع إنجاز السيطرة عليها في غضون ثلاث سنوات فقط، بأنه كان يهوديًا اعتنق الإسلام.
أحد الإجراءات التي كانت بمثابة التأكيد على نظرية المؤامرة هذه في وقت لاحق، هو المرسوم الذي قضى بإبعاد اليهود عن إسبانيا في الحادي والثلاثين من آذار/مارس 1492، والذي ربط طرد اليهود بطرد المسلمين عبر اعتماد التالي: عندما يتوجب على هؤلاء مغادرة البلد، فلا بد للآخرين (المسلمين) من فعل ذلك أيضًا، بمعنى أنه على المتحالفين معهم أنْ يلحقوا بهم.
علاوة على ذلك تستمر الفكرة المهيمنة القائلة بتآمر اليهود والمسلمين على المسيحيين والمسيحية منذ الخلافات المسيحية-اليهودية الأولى وعبر تاريخ حملات هجوم المسيحية المعادية لليهود والمعادية للإسلام من العصور الوسطى وحتى العصور الحديثة. لذلك لم يكُن مفاجئًا أنْ يتضمن التحريض المسيحي المعادي للإسلام حتى العصور الحديثة ذات "الحجج" الموجودة في الحرب التحريض المسيحي المعادي لليهودية، لا بل أنَّ مصطلحي "اليهود" و "المسلمون" قد تحولا إلى مصطلحين يمكن استبدالهما ببعضهما البعض.
هذه الرؤية دفعت بالمناسبة كل من ألان هـ. كاتلر وهيلين إ. كاتلر Allan H. Cutler و Helen E. Cutler إلى القول بأنَّ المسيحية المعادية لليهودية والعداء المسيحي لليهود في العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة كانت من حيث الجوهر عداءً لأفكار الإسلام في الواقع، أو نشأت على أية حال من عداء المسيحيين للإسلام والمسلمين في نهاية المطاف وبمعاملتهم أسوةً باليهود المتحالفين معهم وبالتالي إنزال العقاب بهم بالنيابة عن حلفائهم.
جذور التنوير يهودية-عربية
تبقى بلا شك حقيقة أنَّ أوروبا، وعلى وجه الخصوص أوروبا اليوم، لا تدين بالرغم من ذلك للإرث المسيحي وحسب، بل أنها تشكلت وتأثرت في تاريخها (وحتى اليوم) إلى جانب تأثرها بالإرث اليوناني-الروماني القديم بشكل واسع باليهود والعرب، كما اتسمت كذلك بوضوح واستدامة بالإرث الذي قدمه اليهود والمسلمون من خلال الحضارة الإسلامية، وفي بعض البلدان الأوروبية لا يتواجد المسلمون (إلى جانب اليهود) منذ قرون وحتى يومنا هذا وحسب، إنما يشكلون أيضًا جزءا من تاريخ هذه البلدان وينتمون إلى مجتمعاتها (إلى جانب روسيا هناك على وجه الخصوص ليتوانيا وبولندا ومنطقة جنوب غرب البلقان.)
هكذا احتفل المسلمون في ليتوانيا بعيد ميلادهم الست مائة، أي بالذكرى السنوية الست مائة لمنحهم الامتياز العام من قِبَلِ الدوق فيتاوتاس ويتولد Vytautas-Witołd، الذي لم يضمن لهم فقط حق الإقامة والوجود في ليتوانيا، إنما رسَّم هذا الحق في الوقت نفسه للعيش بشكل لا محدود (usque ad infinitum) هناك باعتبارهم مسلمين وجنبا إلى جنب مع الطوائف الدينية الأخرى، وبقي هؤلاء على المذهب السنّي (والمدرسة الفقهية الحنفية) حتى الآن.
[يُحذِّر المفتي العام للبوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش من النظر إلى الإسلام على الدوام باعتباره دين المهاجرين.]
وبدأ مسلمو البوسنة على نحو مماثل في الثامن والعشرين من تموز/يوليو 2007 بالاحتفال بعيد ميلادهم الست مائة وأكّدوا بذلك على أنهم ليسوا فقط موجودين منذ قرونٍ في أوروبا، بل على أنهم يشكلون جزءًا من المجتمع البوسني وأنهم من صناع تاريخ هذا البلد.
ويؤكد المفتي العام للبوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش بالإشارة إلى هذا التاريخ بحق على أنه خطأ من الناحية التاريخية وحذَّر من أنَّ نتائجه خطيرة من الناحية السياسية، عندما يُنظر إلى الإسلام على الدوام باعتباره دين المهاجرين فقط ويجري نسيان وكبت حقيقة وجود إسلام أوروبي يعتنقه السكان الأصليون، لا سيما "مسلمو البلقان"، وهم "أوربيون قدماء وليسوا مهاجرين" كما يكتب تيموثي غارتون آش Timothy Garton Ash.
لا بد من التأكيد على هذا إزاء المقتنعين بالفرضية الخيالية القائلة بأنَّ أوروبا "مسيحية" أو على الأقل بأنها "يهودية-مسيحية" بغية إقصاء المسلمين من خلال التعريف، وكذلك إزاء أولئك الذين يرون أنَّ طبيعة الإسلام لا تتوافق في الأساس مع الفكرة الأوروبية ومع القيم الأوروبية ويتمسكون بدلًا من ذلك بـ "صورة الإسلام العدو"، التي أصبحت في الواقع منذ فترةٍ طويلةٍ صورة ًقديمة ًجديدةً لعدو وهمي يتمثل بالإسلام.
الإسلام جزء من أوروبا
يصعب تصوُّر أوروبا "المسيحية" دون جذورها اليهودية والإسلامية بجانب الجذور الكلاسيكية اليونانية-الرومانية القديمة، ولسوف تبقى أوروبا المسيحية بالمعنى المتداول اليوم وبالمصطلح الذي يجري فهمه واستخدامه على نحو واسع مجرد افتراض خيالي، كما كان الأمر دائمًا.
وكما كانت أوروبا في الماضي تتشكل وتتأثر بشكلٍ متبادلٍ وتتسم بشكلٍ مستدام بالنقاشات الخلّاقة عبر الديانات السماوية الثلاث (حتى أنْ طرد اليهود والمسلمين لم يعنِ انتهاء دور اليهودية والإسلامية)، لن يتسنى تشكيل أوروبا في المستقبل إلا عبر تعاون الديانات الإبراهيمية الثلاث.
[نشر هذا المقال للمرة الأولى على موقع "قنطرة" باللغة الألمانية وترجمه إلى العربية يوسف حجازي. "جدلية" تعيد نشره بالإتفاق مع الموقع.]